أهمية التاريخ الإسلامي
(2/2)
بقلم : الأستاذ الدكتور عبد العظيم محمود الديب
(ذ) تمزيق تاريخ
الأمة الإسلامية، طولاً وعرضًا بتقسيمه دولاً إلى تواريخ أسر: الأموية، والعباسية،
والمماليك، والعثمانيين، الخ... وعرضًا بتقسيمه إلى تواريخ أقاليم ومناطق، يمدها
في العمق قبل الإسلام – كما أشرنا – لإثارة عوامل الفرقة، ومظاهر الاختلاف،
ومؤكدّا إياها، ومذكرًا بالصراعات والحروب والخصومات والإحن.
على حين الأصل في تاريخ دارالإسلام، أن يدرس – إذا أردنا دراسةً علميةً
منهجيةً صحيحةً – على أنه صراع بين المسيحيّة الشمالية المعتدية التي جاء الإسلام
فوجدها مسيطرةً على الشام ومصر، والشمال الأفريقي، فخلص هذه الديار من سلطانها
وردّها إلى عقر دارها، فاندحرت تحمل ذل الهزيمة على جباهها ونار الحقد والثأر في
قلوبها، ثم كان الجهاد الإسلامي استجابةً للأمر بتبليغ رسالة الإسلام للعالمين،
فكان فتح الأندلس، ومحاولات فتح القسطنطينية، ثم الصراع الدائم على الحدود
والثغور، ثم جولة الحروب الصليبية التي استمرت نحو قرنين، ثم سقوط القسطنطينية،
ودخول الإسلام إلى قلب أوروبا، ودخول كثير من أقاليمها في الإسلام، ثم محاولة
الصليبية الالتفافَ حول ديار الإسلام، وعقد الأنشوطة حوله – على حد تعبير (توينبي)
مؤرخهم – ثم محاولة اختراق ديار الإسلام منذ القرن التاسع عشر، على أيدي (نابليون)
وحملته على الشرق، (وليس على مصر كما يلقّنوننا) ثم حملة (فريزر) التي أرادت
الدخول من بوابة مصر أيضًا، ثم حملة فرنسا على الجزائر سنة 1830م... الخ .. هذا هو
تاريخ الإسلام إن أردنا أن ندرسه على حقيقته، يمنهج علمي سليم .
أما معركة الجمل، ومعركة صفين، والتحكيم، والخوارج، ووقعة الحرة، وكربلاء
ومقتل أبي مسلم الخرساني، وصراع الأمويين والعباسيين.. الخ .. فتلك عثرات على
الطريق، وهي لازمة للقصور، والضعف البشري، فنحن لا نزعم أن أسلافنا ملائكة، وهي
لازمة للقصور، والضعف البشري، فنحن لانزعم أن أسلافنا ملائكة، وهي على أية حال
حزئيات تظهر في الصورة، ولكنها لا يمكن – عند المنهج العلمي السليم – أن تغطّي على
عمود الصورة الكلية أو تؤثـّر في بنائها، كما أنها واقعًا وحقًا – لا يجرؤ أن
ينكره منكرٌ – لم تؤثر في تدفق نهر تاريخ أمتنا، ولم تكدّره، بل ظلَّ أكثر من ألف
عام تدفقًا معطاء .
ولا يتوهمنَّ أحد أننا نريد أن نخفي شيئًا من تاريخنا، فنحن نعي أننا نكتب
تاريخ بشر، ولا تاريخ ملائكة، وإنما الخطر في ذلك المنهج الذي يقف عند هذه
العثرات، ويصوغ منها تاريخنا، ولذا نشأتْ أجيال لا أقول من عامة المثقفين؛ بل من
خاصتهم؛ بل من خاصة الدعاة إلى الإسلام، ممن لا نغمطهم في علم ولا في خلق ولا في
دين ولا في غيرة، واحتراق من أجل الإسلام، أقول نشأت أجيال من هؤلاء، ولم يبق في
ذهنهم من تاريخ أمتنا إلا هذه المآسي التي انطبعت في أعماق أعماقهم، وهم في أول
الطريق، فجاء جيل بعد جيل، وهم يمقتون تاريخَهم، ويتخيّلونه ساحةً مظلمةً، يسيطر
عليها الجهل والعطغيان، والقتل، والظلم الاجتماعي(1).
ولو نظرنا في تاريخ أوروبا، لوجدنا أن ما دار بينهم من صراع، وما كان عندهم
من مآسٍ، وما صبغ أيامهم من دم، وما غطى عصورهم من جهل، وما ران على تاريخهم من
ظلم، وما تردّت فيه خطواتهم من وحل، لوجدنا أن ما كان عندهم يفوق بعضُ بعضِه، كلَّ
ما كان عندنا؛ بل إن ما كان عندنا أبدًا لا يذكر في مقابلة ما كان عندهم، (ولكن
التاريخ الأوروبي عثر على مؤرخين أعادوا إليه الحياة، وقدّموه في إطار حي بصورة
فنيّة رائعة بكل عناصرها، الخلفية والتكوين والأضواء والظلال، والألوان والمساحات)(2).
وبقينا نحن نتطلع إلى تاريخهم بإعجاب، معتقدين أنهم لم يعرفوا هذه المآسي
التي لم يبق غيرها مستقرًا في أعماقنا، من تاريخ أمتنا.
ولم يقتصر تقسيمهم التاريخ إلى فترات زمنيّة، على التاريخ السياسي فقط، بل
شمل ذلك تاريخ الأدب العربي أيضًا، فقسموه إلى العصر الجاهلي ثم صدر الإسلام، ثم
العصر الأموي، والعصر العباسي،.. الخ ، على نحو ما هو معروف، يؤكّد ذلك الدكتور
أحمد أمين، حيث يقوله في كتابه (حياتي): (إن فكرة تصنيف الأدب العربي إلى عصور
مختلفة مع تحديد خصائص كل عصر، وتحليل سير مؤلفيه، لم تكن معروفةً بمصر لحين وصول
المتشرقين)(3).
(هـ) اختزال تاريخ الإسلام
والمسلمين:
فقد أُلِّفَتْ كتب كثيرة في تاريخ العالم، أو تاريخ الحضارة الإنسانية،
فكان مؤلفوها الغربيون، يختزلون تاريخ الإسلام والمسلمين، اختزالاً يوحي بقيمته
ومكانته في نفوسهم، بل يوحي بانحراف منهجهم، وسوء قصدهم، ويكفي مثالاً على ذلك
الكتاب الذي كتبه (هـ. ج. ويلز) باسم (معالم تاريخ الإنسانية) وترجمه إلى العربية
عبد العزيز توفيق جاويد، وطبعتْه لجنة التأليف والترجمة والنشر بمصر، ولا تجد في
الكتاب إلا تاريخ الجاهليات، والوثنيات، أما تاريخ الإسلام وأثره في (معالم تاريخ
الإنسانية) فلم يذكره إلا بفصل من 53 صفحة .
والسر في ذلك أنهم دائمًا يكتبون التاريخ من مركز الدائرة الأوروبية، أي
ينظرون من زاوية أوروبية، وبعيون أوروبية، فتاريخ العالم هو تاريخ الغرب وأما ما
سوى الغرب، فهو لا يذكر إلا بمقدار ما يتصل بالغرب، أو يتأثر به، أو يأخذ عنه، فما
سوى الغرب نقاط متناثرة حول صلب التاريخ وعموده.
ثانيًا: المنهج من حيث
استكمال شروطه، والالتزام بقواعده:
ومع أننا نتحدث عن كتابات الغربيين في التاريخ، إلا أننا سنرى أن ما سنقوله
هنا ينطبق على مناهجهم في الدراسات الاستشراقية بصفة عامة، في التاريخ وغيره،
كالدراسات الأدبية والدراسات حول القرآن، وحول السنة وكل ما تخطه أيديهم مما يتصل
بالإسلام والعربية .
ولأننا جعلنا كتاباتهم في التاريخ موضوعَنا، سنقصر أمثلتنا على الكتابات التاريخية
وحدها، لنكون ملتزمين بموضوعنا .. إن شاء الله ..
ونستطيع أن نوجز هذه الملامح والسمات المنهجية وإن
شئت قلت: المآخذ المنهجية على النحو الآتي :
أ – الخضوع للأهواء وعدم
التجرد للبحث
شرط المنهج الأول، وأساسه، التجرد من الهواء، وعدم الوقوع تحت سلطانها، فلا
يميل الهوى بالباحث لإثبات ما يوافق هواه، ونفي ما عداه فما بالُنا بمن يحدد الغرض
أولاً، والنتيجة مسبقًا، ثم يبدأ في البحث عما يؤيّدها، والتنقيب عما يثبتها، فهذا
ليس علمًا، وليس بحثًا، مهما كانت صورته، ومهما كان شكله، وهذا هو ما يعمله
المستشرقون، فهم (يعينون لهم غايةً، ويقررون في أنفسهم تحقيق تلك الغاية بكل طريق،
ثم يقومون لها بجمع معلومات – من كل رطب ويابس – ليس لها علاقة بالموضوع، سواء من
كتب الديانة والتاريخ، أو الأدب أو الشعر، أو الرواية، والقصص، أو المجون
والفكاهة، وإن كانت هذه المواد تافهةً لا قيمة لها، ويقدّمونها بعد التمويه بكل
جراءة، ويبنون عليها نظريةً، لا يكون لها وجود إلا في نفوسهم وأذهانهم (العلامة
أبوالحسن الندوي، الإسلام والمستشرقون: 19، المجمع الإسلامي العلمي، ندوة العلماء،
لكنو، الهند، 1402هـ - 1982م).
وما ذكرناه في هذا البحث آنفًا عن أهداف المستشرقين وغاياتهم، يشير إلى هذه
الآفة، فالمستشرق يبدأ بحثه وأمامه غاية حدودها، ونتيجة وصل إليها مقدمًا، ثم
يحاول أن يثبتها بعد ذلك، ومن هنا يكون دأبه، واستقصاؤه الذي يأخذ بأبصار بعضهم،
وهو في الواقع يدأب، ويشقى ويكد لينحِّي ما يهدم فكرتَه ويكذب رأيه، ويخفي ويطمس
ويتجاهل كل ما يسوقه إلى نتيجة غير التي حددها سلفًا، ومن هنا تأتي أبحاثهم عليها
مسحة العناء والاستقصاء، ولكنه عناء الالتواء، واستقصاء من يجمع من لاشيء شيئًا،
ويصنع من الهباء بناءً ويبني من الغبار صرحًا .
يقول أستاذنا محمود شاكر، عن هذا الخطر، والخلل المنهجي:
(وأما الأهواء، فهي الداء المبير والشرّ المستطير، والفساد الأكبر، إن هو
ألمّ بأي عمل إلمامةً خفيفةً الدبيب، بلّه الوطء المتناقل، أحاله إلى عمل مستقذر
منبوذ كريه، حتى ولو جاءك هذا العمل في أحسن ثيابه، وحليه وعطوره، وأتمها زينةً،
من دقة استيعاب وتمحيص، ومهارة، وحذق وذكاء)(4).
هذا الداء المبير، والخطر الوبيل، وحذر منه علماؤنا الأقدمون، منذ أكثر من
ألف عام، حين وضعوا قواعد المنهج، وحدّدوا أركانه وشروطه، فتردد في كتبهم، ونبّهوا
عليه في كثير من مؤلفاتهم، وخصّوا هذه القواعد بكتب ورسائل خاصةً فمن قبل ألف عام
قرأت الدنيا للحسن بن الهيثم المتوفى سنة 430هـ 1038م، فيما وضعه من قواعد المنهج
قوله في كتابه (المناظر).. (ونجعل غرضَنا في جميع ما نتستقرئه ونتصفحه استعمال
العدل، لا اتباع الهوى، ونتحرّى، في سائر ما نميّزه، وننتقده طلب الحق، لا الميل
مع الآراء، فعلّنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج(5) الصدر،
ونصل بالتدريج والتطلف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين، ونظفر مع النقد والتحفظ
بالحقيقة التي يزول معها الخلاف، وينحسم بها موادّ الشبهات)(6).
هكذا، استعمال العدل والبعد عن الهوى، وطلب الحق، وعدم الميل مع الآراء،
شرط للوصول إلى اليقين والحقيقة!! فهل كان المستشرقون يبغون اليقين ويريدون
الحقيقة؟؟.
ب- عجز المستشرق عن تمثل
الثقافة واللغة
إذا كان من شروط المنهج البراءة من الأهواء، كما ذكرنا آنفًا، فإن من شروطه
أيضًا إدراك اللغة والإحاطة بأسرارها، أسرار اللغة التي يبحث الباحث في آدابها
وعلومها، وفنونها، وكذلك إدراك (الثقافة) والإحاطة يسرها، (ثقافة) الأمة التي يريد
أن يبحث في تاريخها، وعقائدها، وعمرانها، وحضارتها، وعقائدها ودينها .
وذلك لازم للمستشرق وغير المستشرق، "هذه الشروط لا يختلف في شأنها أحد
قطّ في كل ثقافة، وفي كل أمة، فإذا كان لا يعدّ كاتبًا أو باحثًا أو عالمًا من
أبناء اللغة، وأبناء الثقافة أنفسهم، إلا من اجتمعتْ له هذه الشروط فإذا عري منها
لم يكن أهلاً للنزول في ميدان (المنهج) فإذا فعل، فهو متكلم لا أكثر، ثم لا يلتفت
إلى قوله، ولا يعتد به عند أهل البحث والعلم والكتابة .
والمستشرق فتى أعجمي ناشئ، في لسان أمته وتعليم بلاده، ومغروس في آدابها
وثقافتها.. ثم يشدو طرفًامن علوم العربية وآدابها، يأخذها من أعجمي مثله، ثم يخرج
على الناس بعد ذلك (مستشرقًا)، يفتي في اللسان العربي، والتاريخ العربي، ... غاية
ما يمكن أن يحوزه (مستشرق) في عشرين أو ثلاثين سنة .. أن يكون عارفًا معرفة ما
بهذه (اللغة) وأحسن أحواله عندئذ أن يكون يمنزلة طالب عربي، في الرابعة عشرة من
عمره، بل هو أقل منه على الأرجح، أي هو في طبقة العوام الذين لا يعتد بقولهم أحد
في ميدان (المنهج).. على أن اللغة نفسها هي وعاء (الثقافة) فهما متداخلتان، فمحال
أن يكون محيطاً أيضًا بثقافتها أحاطةً تؤهّله للتمكن من (اللغة) فمن أين يكون
(المستشرق) مؤهّلاً لنزول هذا الميدان؟..
وإذا كان أمر (اللغة) شديدًا لايسمح بدخول المستشرق تحت هذا الشرط اللازم
للقلة التي تنزل ميدان (المنهج) و (ماقبل المنهج) فإن شرط (الثقافة أشد وأعتى، لأن
الثقافة سر من الأسرار الملثمة في كل أمة من الأمم، وفي كل جبل من البشر، وهي في
أصلها الراسخ البعيد الغور، معارف كثيرة لا تُحْصىٰ، متنوعة أبلغ التنوّع،
لا يكاد يُحَاطُ بها، مطلوبة في كل مجتمع إنساني، للإيمان بها أولاً من طريق العقل
والقلب، ثم للعمل بها، حتى تذوب في بنيان الإنسان، وتجري منه مجرى الدم، لا يكاد
يحسّ به، ثم للانتماء إليها بعقله وقلبه، انتماءً يحفظه ويحفظها من التفكّك
والانهيار، وهذه القيود الثلاثة: (الإيمان) و(العمل) و(الانتماء) هي أعمدة
(الثقافة) وأركانها التي لا يكون لها وجود ظاهر محقق إلا بها، وإلا انتقض بنيان
(الثقافة) وصارت مجرد معلومات ومعارف وأقوال مطروحة في الطريق متفكّكة لايجمع
بينهاجامع، ولا يقوم لها تماسك، ولا ترابط ولاتشابك .
وبديهي، بل هو فوق البديهي، أن شرط (الثقافة) بقيوده الثلاثة، ممتنع على
(المستشرق) كل الامتناع، بل هو أدخل في باب الاستحالة من اجتماع الماء والنار في
إناء واحد، كما يقول أبوالحسن التهامي الشاعر:
ومكلّف الأيام ضدّ طباعها
متطلّب في الماء جــذوة
نـار
وذلك لأن (الثقافة) و(اللغة) متداخلتان تداخلاً لا انفكاك له، ويترافدان
ويتلاقحان بأسلوب خفي غامض كثير المداخل والمخارج والمسارب، ويمتزجان امتزاجًا
واحدًا غير قابل للفصل، في كل جيل من البشر، وفي كل أمة من الأمم.. فأنّىٰ
للمستشرق أن يحوز ما لا يحوزه إلا من ولد في بحبوبة اللغة وثقافتها منذ كان في
المهد صبيًا..."(7).
وهذا كلام مبين غاية الإبانة، واضح تمام الوضوح،
لاتحتاج معه إلى دليل ومع ذلك أسوق لك من كلام أحد المستشرقين وكبار دهاقينهم ما
يؤكد هذا.
كتب شيخ المستشرقين الروس، وأقدرهم بإطلاق (كراتشوفسكي) إلى شقيقته يقول
لها: (إن اللغة العربية تزداد صعوبةً ، كلما ازداد المرء دراسةً لها) – أرجع إلى
المقدمة التي كتبتها زوجته لكتابه (مع المخطوطات العربية) تجرمة الدكتور محمد منير
مرسي. قلت: ما باللغة العربية من صعوبة!! وكيف تزداد صعوبتها مع الأيام؟ وكلما
ازداد دراسة لها؟؟ لكنه العجز الفطري والعجمة الموروثة، فأنّى يهرب منها
(كراتشوفسكي) وأضرابه.
وإن كنت بعد في شك من أمر عجز المستشرق عن استكناه سرّ اللغة، وإدراك كنه
الثقافة، فسأضع بين يديك نماذج لما وقعوا فيه من أومام غليظة(8) نتجيةً
لهذا العجز المهين، فيمنها: "شرح كارترمير، (الأحداث) بالغوغاء، وتفسير
كازانوفا، لفظ (أمي) بشعبي، ومن ذلك ما وقع فيه المستشرق الألماني (براجستراسر) في
تحقيق كتاب مختصر في شواذ القراءات لابن خالويه، حيث صحف كلمة أبي عمرو بن العلاء:
(فقد تربع في لحنه) وجعلها: (فقد تربع في الجنة، مع أن المقام مقام ذم"(9).
وإذا كانت هذه الأخطاء لا يترتب عليها كبير خلل في المعنى، أو قضايا
علميّة، فهناك ما يترتب عليه فساد في المعنى، وأحكام شرعية، فمن ذلك ما قاله (م.
وات) من تفسير الغض من البصر بأنه التواضع، حيث قال: (وقد نزلت آيات أخرى تدعو
المؤمنات إلى التواضع) ﴿وَقُلْ لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أبْصَارِهِنَّ، وَيَحْفَظْنَ فُرُوْجَهُنَّ، وَلاَ يُبْدِيْنَ زِيْنَتَهُنَّ إلاَّ
مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾(10).
هكذا يرى أن هذه الآية تدعو إلى التواضع، ولسنا ندري من أين جاءه هذا
المعنى، مع أن السياق، يشير إلى أن الأمر بغضّ النظر هنا هو عدم النظر إلى ما
لايحل نظره من الأجنبي، ولا علاقة لهذا بالتواضع.
ونموذج آخر للمستشرق (فان فلوتن) وهو يُعتبر أحد المستشرقين المعنيين
بالتاريخ الإسلامي، المتخصصين في فترة الأمويين والعباسيين، وتستطيع أن تجد اسمه
يتردد في كثير من الكتب الجامعية مرجعًا من مراجعهم يباهون به، ويفتخرون بالاعتماد
عليه، وهو يغريهم بما ينسبه إلى الطبري، والبلاذري، واليعقوبي، والواقدي،
ونحوهم،فيخيل للباحثين والدارسين أنه (وثق) كل أخباره، وأتى بها من منابعها،
فيعجبون به، ويطمئنون إليه.
* * *
الهوامش:
(1)
عماد
الدين خليل، في التاريخ الإسلامي: فصول في المنهج والتحليل 197.
(2)
المصدر
السابق : 207.
(3)
عن
دونالد مالكولم رايد – جامعة القاهرة والمستشرقون، مرجع سبق ذكره .
(4)
رسالة
في الطريق إلى ثقافتنا : 98 ، 99.
(5) ثلج الصدر: يتردد هذا في مؤلفات
أئمتنا في القرون الأولى، ويعنون به اليقين، وكثيرًا ما يعطفون عليها لفظاً آخر
أوضح دلالة على المعنى المراد فيقولون: (ثلج الصدر، وبرد اليقين).
(6) الدكتور مصطفى نظيف، الحسن بن
الهيثم، بحوثه وكشوفه البصرية، 29-37، نقلاً عن الدكتور علي سامي النشار – مناهج البحث
عند مفكري الإسلام: 373-374 الطبعة الثانية .
(7)
أستاذنا
محمود شاكر – رسالة في الطريق إلى ثقافتنا: 99-104 باختصار تصرف يسير ..
(8) هذا التعبير مستعار من أخي
الدكتور محمود الطناحي، في كتابه مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي – مكتبة
الخانجي – القاهرة 1405هـ 1985م وهو كتاب جيد، ينقذ تاريخًا غاليًا من الضياع .
(9)
محمود
الطناحي، مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي: 227، 228.
(10) (سورة النور:31) (محمد في المدينة:436).
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول 1429هـ مارس 2008م ، العـدد : 3 ، السنـة : 32.